نبذة عن الاقتصاد السياسي الإسلامي وخصائصة

نبذة عن الاقتصاد السياسي الإسلامي وخصائصة

الاقتصاد الاسلامي مرتبط بظهور الاسلام كدعوة الى الله ودين شامل لحياة الناس جميعا. وقد تأسست قواعده منذ نزول القرآن الكريم على سيدنا محمد(ص)، قبل ان يعرف العالم القديم الاقتصاد كعلم. ومن الآيات القرآنية الدالة عليه، سورة المطففين في قوله تعالى:{ويل للمطففين الذين اذا اكتالوا على الناس يستوفون. واذا كالوهم او وزنوهم يخسرون}. فنزلت الآية لضبط المعاملات التجارية وللتحذير الشديد من جريمة الغش في المعاملات بين الناس التي تفسد العلاقات في المجتمع.

وجاء في قوله تعالى: {وما أتيتم من ربا ليربوا في اموال الناس فلا يربوا عند الله، وما أتيتم من زكاة تريدون وجه الله فأولئك هم المضعفون}، الآية:29 من سورة الروم. فالآية تؤكد على ان الزيادة عن طريق الربا هي في الظاهر ولا اثر لها عند الله ولا في الواقع. بينما النقص الذي يلحق الاموال بسبب الزكاة هو نقص في الظاهر، لكنه زيادة في نظر الله والواقع وتزيد في ثروة المجتمع.

ولما تـأسس المجتمع السياسي الاسلامي في المدينة المنورة، تواصل نزول التشريع القرآني لتنظيم وتوجيه الحياة الروحية والاجتماعية والاقتصادية والسياسية، فنزلت الآيات المنظمة للتجارة والمعاملات المالية والعقود. كما قام الرسول (ص) بإنشاء سوق للمسلمين تحررهم من احتكار اليهود وسيطرتهم على الاقتصاد في المدينة.

تنظيم الاقتصاد السياسي الاسلامي

بعد انتشار الاسلام واندماج ثقافات ونظم اجتماعية متنوعة في المجتمع الاسلامي الواحد، ظهرت قضايا اقتصادية متجددة، أدت الى انشاء نظم اقتصادية في غاية الأهمية والدقة، للتحكم في الموارد الاقتصادية وضبط الاجراءات المناسبة في التوزيع العادل للثروات نذكر منها:

  1. -بيت المال: وله عدة اسماء منها: “ديوان الاموال”، ويعتبر اول مؤسسة اسلامية اقتصادية ذات شخصية معنوية منظمة لشئون المال وسياسة الاقتصاد بوجه عام، لتشمل حجم الايرادات والنفقات والمداخيل والمخرجات المالية المتعلقة بالجزية والخراج والفيء والغنائم والزكاة وغيرها.
  2. -ديوان الحسبة: اسم من الاحتساب، والاحتساب من الحسب، يقول العلامة ابن الأثير ” والاحتساب كالاعتداد من العد، والحسبة اسم من الاحتساب”. وفي الاصطلاح: يقول العلامة “الماوردي”: هي أمر بالمعروف اذا ظهر تركه ونهي عن المنكر اذا ظهر فعله “. وذكر العلامة ابن خلدون: انها: “وظيفة دينية من باب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر”.
  3. -الاوقاف: الوقف مؤسسة خيرية تعمل على تسيير الأموال الموقوفة على سبيل الخير والاحسان.
  4. -البنوك الاسلامية: هي مؤسسات مالية قائمة في شكل شركات لا تتعامل بالفوائد الربوية المحرمة في الدين الاسلامي، وبمعنى آخر مؤسسة تقوم بنشاط مبرأ من التعامل بالربا.

من هذا المنطلق، نشأت ايضا المكتبة الاقتصادية الاسلامية القديمة والتي سبقت نظيرتها الاوروبية الحديثة بآلاف السنين، فظهر التخصص العلمي في المؤلفات الاقتصادية الاسلامية، من خلال ما تناوله فقهاء الاسلام في كتاباتهم واستعمالهم مصطلحات متعددة، كـ: “المعاملات”، “الاكتساب”، “المعاش”، “الأموال”. والتي لها دلالة واضحة على الاقتصاد في اطار مبادئ الاسلام.

ومن الكتب التي اشتهرت في هذا المجال:

  • كتاب “الخراج”، ليحي ابن آدم القرشي ظهر في عام 203هـ/785م.
  • كتاب “الاكتساب في الرزق المستطاب”، للإمام محمد بن الحسن الشيباني (234هـ/815م).
  • كتاب “الخراج”، لأحمد بن حنبل.
  • مقدمة العلامة عبد الرحمن بن خلدون التي ظهرت في القرن 15هـ/13م والتي توجد الكثير من افكاره في كتاب “ثروة الامم” لأدم سميث”، الذي كتبه عام 1776م.
  • كتاب “اغاثة الامة بكشف الغمة” للعلامة المقريزي، في النقود ودورات الاعمال الاقتصادية، بحث فيه اسباب الأزمات الاقتصادية وقدم الحلول لها.

وعليه فان الاقتصاد السياسي الاسلامي قائم بذاته الى جانب الاقتصاد ككل، فهو تراث اقتصادي واقعي يحترم الملكية الفردية والجماعية ويوازن بينهما ويجعل كل منها في خدمة الاخرى. كما ان له مبادئ وقيم يرتكز عليها من خلالها يتم تجميع طاقات المجتمع لرسم سياسة اقتصادية جادة وواقعية تحقق التوازن بين الانتاج والاستهلاك وبين الاستثمار والادخار، وبين الصادرات والواردات، وتأخذ في الحسبان مراحل التطور الاجتماعي والاقتصادي. والامكانيات المتاحة للمجتمع لتحقيق الرفاه الاقتصادي والاستقرار السياسي.

خصائص الاقتصاد السياسي الاسلامي

يرتكز الاقتصاد السياسي الاسلامي على مجموعة من الخصائص، نذكر منها:

ربانية المصدر والهدف

بمعنى انه جزء من الاسلام كدين شامل لكل جوانب الحياة، فهو مستمد من القرآن الكريم والسنة النبوية الشريفة. فهو يهدف الى سد حاجات الفرد والمجتمع الدنيوية، في اطار مبدأ الاستخلاف في الارض بالتصرف في المال والانتفاع به، لأن المال ملك لله وحده. فالمسلم يسعى لارضاء مالك المال في كل نشاط اقتصادي مصداقا لقوله تعالى:{وابتغ فيما أتاك الله الدار الاخرة ولا تنسى نصيبك من الدنيا} القصص/77.

الرقابة المزدوجة

في الاسلام يخضع النشاط الاقتصادي الى رقابة بشرية ورقابة ذاتية، الأولى طبقت في العهد النبوي الشريف من خلال وظيفة مراقبة الاسواق التي يقوم بها المحتسب، وكان الرسول (ص) يشرف عليها بنفسه، وبعده اسندت لديوان خاص. اما الرقابة الذاتية فهي نابعة من المسلم عند عندما يلتزم بمراقبة سلوكه الاقتصادي واعتباره عملا تعبديا.

الجمع بين الثبات والمرونة او التطور

فالأمور الثابتة واضحة ومؤكدة مثل:

  • تحريم الربا والميسر والخمر.
  • اباحة البيع والعقود والنصاب والزكاة.
  • توزيع التركات على الورثة.
  • ثبات حد السرقة.

اما المرونة او القابلية للتطور فهي تسع لعدة اساليب ويتجاوب مع الوسائل المتجددة ما دامت لا تخرج عن الحكم الشرعي. وهذا عكس المذاهب الاجتماعية والاقتصادية الوضعية التي لا تثبت على حال وتتغير في كل الاحوال.

التوازن بين المادية والروحية

الله جل شأنه، خلق الانسان من مادة وروح فهو اعلم بالمنهج الحياتي الذي يسير عليه، ومن مناهج الحياة الاقتصاد في المعيشة والتوازن في الحاجات. وهو عند المسلم مرتبط بالايمان لارضاء الله تعالى، مصداقا لقوله:{ولو ان اهل القرى آمنوا واتقوا لفتحنا عليهم بركات من السماء والارض}، سورة الاعراف/ الآية:96.

الواقعية

الاقتصاد الاسلامي يقوم على الواقع وليس الخيال او الاوهام والوعود الزائفة، فهو ينظر الى الواقع العملي الذي يتفق مع طبائع الناس، ويراعي دوافعهم وحاجاتهم ومشكلاتهم .

التوازن بين مصلحة الفرد ومصلحة المجتمع

الاسلام دين الفطرة جاء لرعاية مصلحة الانسان وحفظ كرامته وضمان حقه في العيش بحرية والقيام بالعبادة في ظل المنهج الرباني المستقيم. وبالموازاة مع ذلك اهتم الاسلام بمصلحة الجماعة برعايتها والتأكيد على التوازن بين المصلحتين في حال التعارض. واقرب مثال الى ذلك: حق الملكية مضمون للفرد فلا يجوز الاعتداء على ملكيته مهما اكتسب من حلال، وله حق الاستعمال والانتفاع والاستغلال لملكيته، بشرط ان لا يتسبب في الحاق الضرر بمصلحة الجماعة . كذلك المحتكر لا يجوز له ذلك لتعارضه مع النفع العام. وهذا التوازن لا يوجد في المذاهب الوضعية، فالرأسمالية تقدس حرية الفرد على حساب الجماعة والعكس صحيح في الاشتراكية والماركسية وهكذا نجد اتجاهين متعارضين متناقضين ويبقى الاقتصاد الاسلامي متميزا بخصيصة التوازن.

مرجعيات الاقتصاد السياسي العربي الاسلامي

عرفت الامة العربية والاسلامية بأمة التجارة منذ اقدم العصور، مرت خلالها بعدة وقائع واحداث اقتصادية كان لها دور بارز في صناعتها والتحكم فيها. ولهذا توسعت تجارة القوافل في شبه الجزيرة العربية، التي نواتها الاساسية مكة المكرمة وقبيلة قريش. وقد خصها الله تعالى في القرآن الكريم بالقول في سورة قريش:{لإيلاف قريش. إلافهم رحلة الشتاء والصيف فليعبدوا رب هذا البيت. الذي أطعمهم من جوع وآمنهم من خوف}. كما قدم القرآن الكريم نموذجا رائعا لحل أزمة اقتصادية وقعت في عهد النبي يوسف (ع)، والتي تعتبر ايضا مرجعا اساسيا لبناء نظرية اقتصادية وتقديم تصور متكامل لاقتصاد سياسي.

فكان من البديهي ان يخوض بعض العلماء المسلمين في دراسة ظواهرها وابراز الحلول المناسبة، لهذا ظهر في العصر ما قبل الحديث بعض المفكرين المسلمين الذين استطاعوا تقديم نظريات اقتصادية قائمة بذاتها، استفاد منها مفكرون غربيون وطوروها في القرن 18 الميلادي. ومن ابرز هؤلاء المسلمين:

  • – العلامة عبد الرحمن ابن خلدون، صاحب كتاب المقدمة
  • – العلامة ابو العباس تقي الدين احمد المقريزي في القرن 15م.

وغيرهم ….

الاقتصاد السياسي عند العلامة ابن خلدون

الاقتصاد السياسي عند العلامة ابن خلدون (1332م/1406م)

طرح العلامة ابن خلدون نظرية متكاملة في العمل او كما سماها بكسب المعاش التي ينتج عنها: الربح والنقود ورأس المال والأجر والسعر، ويرى ان المصدر الاصلي لهذه المقولات الاقتصادية انما هو “العمل البشري”، الذي يكون منتجا ويؤدي الى الثروة.

فالعمل الذي يقوم بها الانسان هو اساس قيام العناصر الاقتصادية المترابطة وفق علاقات اجتماعية واقتصادية. لهذا حدد ابن خلدون في نظريته الاقتصادية على وسائل كسب المعاش التي هي مرتبطة بتطور تاريخي للمجتمعات فرضت علاقات اجتماعية بين الزراعة المحصورة في البدو والمهن المحسوبة على الحضر. ثم تكون التجارة كحلقة وصل بينهما.

ومن اقوال ابن خلدون ” ثم اعلم ان الكسب انما يكون بالسعي في الاقتناء والقصد الى التحصيل فلا بد في الرزق من سعي وعمل .. فلا بد من الاعمال الانسانية في كل مكسوب ومتمول لانه ان كان عملا بنفسه مثل الصنائع فظاهر وان كان مقتنى من الحيوان والنبات والمعدن فلابد فيه من العمل الانساني كما تراه والا لم يحصل ولم يقع به انتفاع..”. فنلاحظ ان ابن خلدون طرح نظرية قيمة العمل المؤدي الى الكسب.

اما قوله: “اعلم ان السلطان لابد له من اتخاذ الخدمة في سائر ابواب الامارة والملك الذي هو بسبيله من الجندي والشرطي والكاتب ويستكفي في كل باب بمن يعلم غناءه فيه ويتكفل بأرزاقهم من بيت ماله وهذا كله مندرج في الامارة ومعاشها اذ كلهم ينسحب عليهم حكم الامارة والملك الاعظم هو ينبوع جداولهم . فهو يحدد القوى الاجتماعية التي تستأثر بالفائض الاقتصادي وعلى رأسها الدولة التي تقوم بدور رئيسي في هذا الاستئثار.

فمن خلال الافكار الاقتصادية التي طرحها ابن خلدون في المقدمة، والتي انطلقت كنظريات في العمل والانتاج وتكوين الثروة والاستهلاك، نستنتج انه طرح معادلة اساسية فيما عرف من بعده بالاقتصاد السياسي، والذي طرح في القرن السابع عشر عندما سيتحول الاقتصاد السياسي الى علم له منهجه وموضوعه.

وعليه يمكن القول ان ابن خلدون قد سبق ” وليام بيتي” و”انطوان دي مونكرتيان” و”جيمس ميل ستيوارت” و” ادم سميث”، وغيرهم من المفكرين الاوروبيين في وضع النواة الاولى لعلم الاقتصاد السياسي، الى جانب علم الاجتماع الذي تفرع عنه علم الاجتماع السياسي.

الاقتصاد السياسي عند المقريزي

الاقتصاد السياسي عند المقريزي (1364/1445م)

قدم المقريزي نظرية متكاملة في السياسة الاقتصادية، من خلال اهتماماته بدراسة الظواهر الاقتصادية التي عاشتها بلاد مصر، خاصة المجاعات التي اصابتها خلال الاعوام: 1392م الى 1404م، فتوصل الى تحديد اسباب الازمات الاقتصادية التي اصابت مصر، واستنتج ان النقود كانت المسبب الرئيسي لها. حيث صاغ نظرية اجتماعية لمعرفة اسباب الازمة، فانطلق من تاريخ المجاعات والاثار التي خلفتها في المجتمع الذي وجد انه يتألف من سبع فئات اجتماعية متفاوتة من حيث اثار الازمة فقسم المجتمع الى:

  •  ارباب الدولة.
  • مياسير التجار واولوا النعمة والترف.
  • اصحاب البر وارباب المعيش.
  • الفلاحون.
  • الفقهاء وطلاب العلم وصغار كتاب الدولة.
  • الحرفيون واصحاب المهن والاجراء.
  • اهل الخصاصة والمسكنة.

ومن خلال بحثه في الاحوال المعيشية للطبقات الاجتماعية، طرح مسألة النقود التي يستعملها الجميع بشكل متفاوت وحسب قيمتها، واعتبرها محور المشكلة والحل في نفس الوقت، فاستنتج بان سلطة النقود يجب عليها ان تعمل على انقاص تداولها اثناء الازمات.

وتتلخص اسباب الازمة عنده في نقص المنتجات والسلع وارتفاع ثمنها ويرجعها الى اسباب من الطبيعة كنقص مياه نهر النيل والجفاف واسباب اجتماعية لها بعد سياسي كفساد الحكم والادارة واحتكار الثروات وفرض الضرائب الباهظة او اسباب اقتصادية متعددة كارتفاع الريع والكلفة في الحرث والبذور والاجور. وارجع ذلك الى كمية النقود المتداولة كانت سببا في ارتفاع الاسعار، ولهذا طرح فكرة اعادة تنظيم النقود حسب قيمتها للقضاء على الازمة. فمن خلال هذه النظرية، نجد ان المقريزي قد سبق مفكرين اقتصاديين ظهروا في القرن الثامن عشر وتبنوا فكرة قيمة النقود المسكوكة واثرها في الازمة الاقتصادية. ومنهم “غريشام” الذي جاء بنفس الفكرة التي طرحها المقريزي في القرن 15م.

بقلم د. محمد مصطفى زرباني. ( استاذ محاضر في القانون ), من محاضرات مقياس الاقتصاد السياسي.

مواضيع مهمة

اترك تعليقاً